صورة تجمع الخور اسقف يوحنا كرم والمؤرخ الخوري يوسف نجيب ابي صعب.
وكانت الألحان السريانية مضبوطة على أوزان شعرية، تثير في النفس الخشوع، والاتحاد الروحي بالمناسبة التي يجري الاحتفال بها. وهي ألحان بسيطة منبثقة من علاقة الانسان بالخالق، وايمانه المسيحي العميق، وتعكس بساطة عيشه واصالة ارتباطه بارضه، ومعاناته.
ولعل أروع ما التصق بذاكرتي رتبة السجدة أمام مغارة السيد المسيح في الكنيسة ليلة ميلاده والتي تبدأ ب(لخدم شوبحي لمالاخي ... لخييه شوبحو آلهو...). إن هذه الرتبة تنقسم إلى خمسة عشر دور يختتم كل دور منها بلازمة (قاديش، قاديش، قاديشات آلهو...). وفي نهاية كل دور يسجد الكاهن والشمامسة وجمهور المصلين أمام المغارة التي تحتضن المولود الالهي، والمثبتة في واحدة من زاويتي المذبح. وكان يحتفل بهذه الرتبة في قداس منتصف الليل، وكان المؤمنون يحملون معهم إلى الكنيسة مصابيح الزيت والكاز، واعواد اللقش التي تشتعل من دون الحاجة إلى دهنها باي مادة حارقة.
كما كانت الشموع الموزعة على " شماعدين" عملاقة او متوسطة الحجم، تنير ارجاء الكنيسة. ولا تغيب عن ذاكرتي ايضا الترتيلة التي تصاحب إقدام الكاهن على نثر الماء المقدس على المصلين ليلة عيد الدنح او الغطاس (روساو عليك بزوفوخ ...)، وكذلك صلاة رفع البخور عن أرواح الموتى (شاباح لمريو كولخول عاميه...) التي ترجمت إلى العربية، وباتت المعتمدة في الجنازات (نفحات العطر العذب عن أرواح موتانا...) وكنت اطرب واشارك بحماسة في ترتيلتين سريانيتين كان المؤمنون يؤدونها قبل تناول القربان المقدس، أو خلال المناولة (قابل موران بحنونو) و(إنو إنو دلحمو دحيو ...).
ومن المؤسف أن هذه اللغة غابت عن القداس الماروني، ولم يتبق منها الا النزر اليسير الذي يذكرنا بجذورنا السريانية. وإن لجؤ الكنيسة إلى هذا التدبير يعود إلى اضمحلال هذه اللغة، وندرة المتكلمين بها بين الموارنة منذ مطالع القرن العشرين، وصعوبة تعليمها وتعلمها، في محيط عربي اللسان، إضافة إلى غزو اللغات العالمية الحية لبلادنا وخصوصا اللغتين الفرنسية والانكليزية. وبالتالي أصبحت اللغة السريانية، كآلارامية واليونانية واللاتينية القديمة والاشورية من اللغات الميتة التي لا يعتمدها الا الاكليروس في الطقسيات الكنسية، ولم تعد لغة تخاطب وتفاهم بين شعوب وجماعات.
ولا بد من الإشارة إلى أن اللغة السريانية كما العبرية وآلارامية والاشورية هي من اللغات السامية، وهناك تشابه بينها وبين اللغة العربية، وكثيرا ما تجد عبارات مشتركة او على الاقل متشابهة بينها وبين لغة الضاد، والامثلة عديدة، وربما لا تحصى اذا تعمقنا فيها. عدا التماثل الكبير في ابجدية هذه اللغات، مع فروقات لا تذكر. وللدكتور أنيس فريحه -رحمه الله- ابحاث معمقة وشاملة حول الموضوع.
وفي أي حال، فقد قامت الكنيسة المارونية بعمل كبير ومضن للحفاظ على الألحان السريانية واسقاطها على الصلوات الطقسية التي تولت ترجمتها بامانة عن هذه اللغة. وسجل لجامعة الروح القدس- الكسليك، عبر معهدها الموسيقي أنها كانت مؤتمنة على هذا الإرث العظيم. كذلك الرهبانية الانطونية والرهبانية المريية، وجمعية المرسلين اللبنانيين.
وفي بلدتي الكفور من أعمال فتوح كسروان برز عدد كبير من الكهنة الذين برعوا في اللغة السريانية وآدابها، وقد تتلمذ على يدهم عدد كبير من أبناء البلدة والجوار، فكانوا يتقنونها قراءة وكتابة ، ويتبارون في ما بينهم في المناسبات التي كانت رتبها تعتمد على هذه اللغة بشكل رئيس، خصوصا في أسبوع آلالام. وكان المغفور له الخوراسقف يوحنا كرم قد الزم طلاب البلدة درس السريانية، وكان يشرف عليهم ، ويحثهم على تعلمها، ويقسو على المتلكئين منهم، وبفضله نشأت أجيال من الكفوريين، اجادت هذه اللغة ، وكانت تتألق في الأعياد والمناسبات التي كان للسريانية فيها السهم الوافر.
ومن هؤلاء اذكر جرجي خليل عيسى الذي كان متقدما على أقرانه، ووالدي مارون يوسف القصيفي الذي كان يخدم رتبة آلالام (الحاش) في كنيستي مار انطونيوس وسيدة الزروع في معاملتين -مقر سكنه شتاء- لعقود من الزمن، من دون انقطاع إلى أن عربت الرتبة كليا. وهو شارك لثلاث سنوات وبصورة متقطعة في رتبة آلالام ببكركي بناء على رغبة المثلث الرحمات الكاردينال البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، بعدما أعجب بادائه على "القرايه" وعدم ارتباكه، واتقانه لفظ الكلمات والالحان المعتمدة لكل مقطع. وقد سأله: هل درست في الاكليريكية؟ فاجابه: لا في بلدتي الكفور على يد الخوراسقف يوحنا كرم. فعلق البطريرك صفير: اعرف الخوراسقف كرم مذ كنت في مدرسة مار عبدا- هرهريا تلميذا، وكان كاهنا وقورا ومعتبرا. لكن لم أكن اعرف انه متضلع من اللغة السريانية. وحاول البطريرك امتحان والدي ليرى هل أن معرفته بهذه اللغة ناتجة من قوة ذاكرته وكثرة مواظبته على حضور الرتب الكنسية على مدى سنوات طوال، أو أنه يتقنها فعلا كتابة وقولا. فاحضر كتاب رتبة سريانية وفتحه على إحدى الصفحات طالبا منه قراءتها، ففعل بسرعة ومن دون تلعثم.
ومن ثم احضر كتاب "البركسيس" (أعمال الرسل) باللغة "الكرشونية" اي التي تكتب فيها النصوص العربية بالاحرف السريانية، وطلب منه أن يقرأ فصلا معينا، فامتثل وتلاه من دون تأتأة. عندها ربت غبطته على كتفه، وقال له ضاحكا "تبقى كتر مشاويرك لعنا بجمعة الحاش. حتى تخدم. واضاف ضاحكا "وبلكي بتعلم بدربك المطران رولان والبونا ميشال" وهو يقصد المغفور لهما نائبه البطريركي المطران رولان ابو جوده، وأمين سره الاب ميشال عويط.
ومن أبناء الكفور والجوار المجلين بالسريانية الذين تتلمذوا على يد الخوراسقف يوحنا كرم، الخوري حارث عون من غدراس، يوسف فرسان ابي صعب، يوسف حنا كرم، عقل خليل عيسى، حنا الياس سيف، خليل قيصر ناضر، إسكندر يوسف عيسى (الخوري مخايل)، جورج منصور القاموع، الأخوة انطون، اسعد واسطفان حنا الدلبتاني، وكان هؤلاء من أصحاب الأصوات الجميلة والقوية، وطالما خدموا القداديس الاحتفالية معا في الأعياد الكبرى والمناسبات. كذلك كان شكري اسعد صافي ملما بالسريانية ويمتلك صوتا رخيما وشجيا. ومن الذين اجادوا السريانية في زمن متأخر عن اقرانهم زكريا زخيا كرم، خليل يوسف الغبيره. وقد يكون هناك العديد من الكفوريين الذين يجيدون السريانية ممن لست اتذكرهم، أو لم يتصل بي امر معرفتهم بها.
على ان الأمانة تقتضي أن اذكر ان كهنة الكفور القدماء جميعهم من آل ابي صعب، وكرم، وبلوز، والرعيدي. كانوا ملافنة في اللغة السريانية، وقد اتقنوها كتابة وقراءة، ونسخوا الكثير من الكتب الطقسية بهذه اللغة بخطوطهم الجميلة. وهنا لا بد من التوقف عند علم كفوري مغمور هو المرحوم نخله الياس ابي صعب المعروف ب" نخله الراهب" الذي وجد ميتا على باب كنيسة مار جرجس - الكفور، وهو كان يهم بفتحه للتحضير لقداس الصباح. فقد كان أحد ملافنة عصره، وله مؤلفات، وقصائد، وابتهالات، وابحاث تنم عن عمق ثقافته واطلاعه، وكان تواضعه وتقاه مضرب مثل. وآثاره مخطوطة ومحفوظة في مكتبة الخوري يوسف نجيب ابي صعب. كان رحمه الله متبحرا في اللغة السريانية. وهو علمها لكثيرين نذكر منهم يوسف الغبيره نسيبه.
ومن الكفوريين القدماء الذين اتقنوا اللغة السريانية يوسف الياس كرم (الملقب بالنجار وهو من المناضلين ضد الاستعمار العثماني، وكان ينقل الأموال والمساعدات التي تأتي من الخارج عبر البحر إلى بكركي لشراء القمح والمؤن التي ساهمت في وضع حد للمجاعة التي فتكت بابناء جبل لبنان إبان الحرب الكونية الأولى وكادت أن تفنيهم عن بكرة ابيهم)، وشقيقه ابراهيم (الذي كان إلى جانب يوسف مناضلا شرسا وصلبا، وادى أدوارا سياسية وأمنية واغاثية خطيرة، كان لها التأثير الكبير في دحر الاستعمار)، والشقيق آلاخر حنا (كان شاعرا زجليا مجيدا، وناظم مراث من الطراز الرفيع). وهم جميعهم اخوة الخوراسقف يوحنا. يوسف إسكندر عيسى.
كذلك فإن المعلمين علام، حنا، يوسف علام، كانوا ملمين بالسريانية ويجيدونها. كما ان الاستاذ خليل علام الذي علم الانكليزية في عدد من معاهد بيروت الكبرى، وكان يتقن إلى جانبها الفرنسية والعربية، الم بالسريانية التي اجادها اغناطيوس عيسى، والأساتذة ميلاد باسيل (مدير مدرسة الكفور الرسمية عندما كانت ابتدائية، متواضعة، وتشغل غرفتين) وموريس نجم الرعيدي (الاستاذ في مدرسة الصنائع بيروت، وكان يكتب الشعر العامي) ورشيد ميشال الدحداح (علم وناظر في اكليريكية غزير، وكان رئيسا لمشاع الفتوح ولبلدية الكفور من بداية السبعينيات حتى العام ١٩٩٨).
وباستثناء المونسنيور يوحنا مارون قويق (مروان قبل سيامته) والكاهنين: سليم جرجي عيسى (راهب انطوني)، والأب جورج شكري نخول، وبعض من لم يتم دعوته الكهنوتية مثل طوني خليل كرم، فلا اذكر ان أحدا درس اللغة السريانية من أبناء الكفور في زمننا هذا. كما اذكر ايضاً انه في النصف الأول من ستينيات القرن المنصرم كان روبير عبد الحي (الاستاذ الثانوي المتقاعد، ومدير ثانوية غوسطا سابقا)، من أصغر الكفوريين الذين اعتلوا "القراية"، وكان يقرأ فصولا من النبؤات في كتاب "كرشوني" بلغة عربية انيقة، وأداء مميز، استحق عليه إطراء الخوراسقف يوحنا كرم. لكن روبير لم يول موضوع التعمق باللغة السريانية اهتماما كبيرا، لظروف الحياة وانتقال عائلته إلى بيروت، والمناهج المدرسية الجديدة، التي حتمت عليه سلوكا مختلفا، لكنه ظل على إلمام بقواعد هذه اللغة وحركاتها. اما انا فحاولت درسها متكلا على والدي الذي استجاب لرغبتي، لكني لم اكمل نظرا لتكريسي الوقت لمواصلة تعليمي، وصعوبة تكيفي مع هذه اللغة. علما اني حفظت ابجديتها (اولاف، بيت..) وحركاتها (اولاف اوريا، اولاف إشعيا...) واني احفظ الكثير من الصلوات والتراتيل غيبا، معترفا بجهلي قراءة هذه اللغة المشدود اليها، منجذبا إلى روحانية تنبثق من ثنايا حروفها، واضلاع كلماتها، ومن تراجيع الحانها، التي تعيدني إلى زمن الأجداد والاباء الذين كانوا يؤمنون من دون أن يروا، أو يتفلسفوا، فيغمرهم سلام روحي داخلي، ويفقهوا عظمة الرب الاله، مجسدا بابنه يسوع المسيح من دون مقدمات، ومجادلات.
وفي عود إلى السريانية في الكفور، فإن عددا من مشايخ آل الدحداح ، كانوا يتقنونها امثال: بشير ، نجيب وخليل (وكان مختار البلدة). وروى لي والدي انه واكب، وهو بعد يافعا، مبارزة زجلية بين الخوراسقف يوحنا والشيخ خليل بالسريانية، وكان يرددها أمامي باستمرار، لكن فاتني للأسف أن اسجلها أو ادونها، كما فاته هو هذا الامر على غير عادته رحمه الله.
من الواضح أن أحدا من الرعيل الجديد لا يعرف من أصول السريانية شيئا، شأنه شأن الغالبية الساحقة من موارنة لبنان والانتشار.
هذه الخواطر راودتني وانا اتحدث إلى راعي ابرشية جونيه المارونية انطوان نبيل العنداري قبيل ترؤسه مراسم جنازة خالي المرحوم زكريا زخيا كرم، الذي كان مفتتنا بهذه اللغة، وكان يصلي بها، ويستذكر فروضها، وكان موضع امتداح حميه الخوري انطون يوسف كرم (نسيب قبل تقبله درجة الكهنوت) - على اتقانه لها. لم يتوقف عن الصلاة والدندنة بالالحان السريانية الا عندما خانه النطق في أيامه الأخيرة قبل أن يسلم الروح، ويغفو الاغفاءة الأبدية في عفص الكفور إلى جانب احباء سبقوه إلى ملكوت الله. فليكن ذكره، وذكرهم مؤبدا ومخلدا.
ذكريات ومحطات
جوزف قصيفي
نقيب محرري الصحافة .